في 15 مايو 1953، نشر الكيميائي الشاب ستانلي ميلر، البالغ من العمر 23 عامًا فقط، نتائج تجربة من شأنها أن تُحدث ثورة في علم الأحياء في مجلة Science. كان هذا العمل الرائد بمثابة بداية ما نعرفه اليوم باسم كيمياء ما قبل الحيوية، وقدم الأدلة الأولى حول كيفية نشوء الحياة على الأرض. وتجربة ميلر معروفة على نطاق واسع في عالم العلوم، وكانت موضوع العديد من الدراسات اللاحقة التي أكدت أنها علامة فارقة في البحث في أصل الحياة.
من خلال هذا المقال، سوف نستكشف بعمق تجربة ميلر، وسياق الأرض المبكرة، والفرضيات المطروحة، وتأثيرها على مجال العلوم.
الأرض البدائية
كان ستانلي ميلر قد تخرج للتو بدرجة علمية في الكيمياء عندما انتقل إلى جامعة شيكاغو لبدء أطروحة الدكتوراه. وكانت هذه لحظة مهمة في حياته المهنية، حيث التقى بعد فترة وجيزة بالشخص الشهير الحائز على جائزة نوبل هارولد سي. أوري، الذي ألقى ندوة حول أصل الأرض والغلاف الجوي المبكر. كان ميلر مفتونًا بالموضوع لدرجة أنه قرر تغيير أطروحته واقتراح تجربة بناءً على هذه الأفكار. بدوره، نشر عالم الكيمياء الحيوية الروسي ألكسندر أوبارين كتابًا بعنوان "أصل الحياة"، أوضح فيه كيف يمكن للتفاعلات الكيميائية التلقائية أن تولد الأشكال الأولى للحياة على نطاق زمني يبلغ ملايين السنين.
قبل أكثر من 4.000 مليارات سنة، كانت الأرض المبكرة بعيدة كل البعد عما نعرفه اليوم. وفقًا لفرضيات أوبارين وهالدين، لم يكن الغلاف الجوي تقريبًا يحتوي على أكسجين وكان يتكون في الغالب من غازات مثل الميثان (CH₄)، والأمونيا (NH₃)، والهيدروجين (H₂) وبخار الماء (H₂O). في هذه البيئة المعادية، من الممكن أن تتفاعل الجزيئات غير العضوية، مما يؤدي إلى ظهور الجزيئات العضوية الأولى. وهذه بدورها تطورت تدريجيًا إلى كائنات أكثر تعقيدًا. كان سطح الأرض مغمورًا بالمحيطات البدائية، حيث كان "حساء البريبايوتك" من المركبات الكيميائية يتفاعل باستمرار. فالعواصف الكهربائية والانفجارات البركانية والأشعة فوق البنفسجية، في غياب طبقة الأوزون، توفر الطاقة اللازمة لحدوث هذه التفاعلات.
وكانت هذه البيئة المضطربة للغاية حاسمة بالنسبة للجزيئات الأبسط لإفساح المجال أمام مركبات أكثر تعقيدا، مثل الأحماض الأمينية التي تشكل البروتينات، الضرورية للحياة كما نعرفها.
أدلة من تجربة ميلر
اعتمد عمل ميلر على فرضية مفادها أن الغلاف الجوي للأرض في وقت مبكر كان يتناقص، أي مع وجود كمية قليلة جدًا من الأكسجين ولكنه غني بالغازات مثل الميثان والهيدروجين والأمونيا. وقد تم دعم هذه النظرية من خلال الدراسات الفلكية التي أشارت إلى أن الأجواء الأخرى في النظام الشمسي لها تركيبات مماثلة. تتمتع الكواكب مثل المشتري وزحل بأجواء غنية بهذه الغازات. في هذا العالم البدائي، تسببت طاقة العواصف والإشعاع الشمسي الشديد في حدوث تفاعلات كيميائية مستمرة. قرر ميلر أن يأخذ هذه الأفكار خطوة أخرى إلى الأمام من خلال تصميم تجربة تحاكي هذه الظروف في المختبر.
من خلال تحويل انتباهه إلى غياب الأكسجين، صمم ميلر جهازًا يسمح بالحفاظ على الظروف اللاهوائية والمعقمة، لضمان أن أي نتائج كانت بسبب التفاعلات الكيميائية حصريًا، دون تدخل الكائنات الحية. وكان هذا هو الأساس لتجربته الشهيرة.
تجربة ميلر في العمق
اقترح ميلر اختبار فرضية أوبارين من خلال إعادة تهيئة ظروف الأرض المبكرة في المختبر. قام بخلط الغازات مثل الميثان والأمونيا والهيدروجين وبخار الماء، والتي تمثل المكونات السائدة في الغلاف الجوي البدائي، في جهاز مغلق. كانت التفريغات الكهربائية تحاكي البرق الناتج عن العواصف الشديدة التي كانت شائعة في ذلك الوقت. تتكون تجربة ميلر من جهاز زجاجي حيث يتم تسخين الماء بشكل مستمر حتى يتبخر، مع مرور البخار عبر خليط الغاز. عند التبريد في مكثف، يختلط البخار والغازات مرة أخرى، مكملين دورة ثابتة. وكان هذا أمرًا أساسيًا، حيث قام بمحاكاة دورة المياه في الغلاف الجوي للأرض في وقت مبكر.
وبعد أسبوع من العملية المتواصلة، لاحظ ميلر أن السائل الموجود في جهازه قد تحول إلى اللون البني الداكن. وعند تحليله، اكتشف أنه قد تم إنتاج الأحماض الأمينية، وهي مركبات عضوية ضرورية للحياة. ومن بين هذه العناصر الجلايسين والألانين وحمض الأسبارتيك، وهي ضرورية للبنية والوظائف الخلوية. وكانت هذه أول خطوة ملموسة نحو فهم كيفية تشكل الحياة على الأرض. أظهرت تجربة ميلر أنه في ظل الظروف المناسبة، يمكن للجزيئات العضوية أن تتشكل تلقائيًا من مركبات غير عضوية بسيطة.
الجزيئات العضوية من الفضاء
ومع ذلك، بعد سنوات، خلصت الأبحاث إلى أن الغلاف الجوي المبكر للأرض ربما لم يكن متقلصًا كما كان مفترضًا في البداية، وأنه ربما كان يحتوي على كمية أكبر من ثاني أكسيد الكربون (CO₂) والنيتروجين (N₂) مما كان يعتقد سابقًا. أدى هذا إلى تعقيد إمكانية تكوين الحياة كما اقترح يوري وميلر. في عام 1969، سقط نيزك يسمى مورشيسون، والذي تشكل قبل حوالي 4.600 مليار سنة، في أستراليا.
وعندما قام العلماء بتحليل النيزك، وجدوا فيه مجموعة غنية من الجزيئات العضوية، بما في ذلك الأحماض الأمينية، التي كانت تشبه إلى حد كبير تلك التي حصل عليها ميلر في مختبره. ولذلك، يشير هذا الدليل الجديد إلى أنه إذا لم تكن الظروف على الأرض مناسبة تماما لتكوين الحياة، فمن الممكن أن تكون الجزيئات الضرورية قد وصلت من الفضاء الخارجي عبر النيازك والمذنبات، وهو ما كان سيثري "حساء البريبايوتك". دعم هذا الاكتشاف نظرية البانسبيرميا، التي تشير إلى أن المكونات الأساسية للحياة ربما وصلت إلى الأرض من الفضاء الخارجي، مما يؤدي إلى احتمال أن تكون الحياة، أو على الأقل وحداتها الأساسية، شائعة في جميع أنحاء الكون.
تأثير واستمرارية التجربة
على الرغم من أن تجربة ميلر كانت ثورية، إلا أن الانتقادات بدأت تظهر مع مرور الوقت. مع تحسن نماذج الغلاف الجوي المبكر، تم التوصل إلى أنه ربما كان أقل تناقصًا مما تصوره ميلر وأوري. ومع ذلك، استمرت التجارب الحديثة في إثبات أنه حتى في الأجواء الأقل اختزالًا، من الممكن تصنيع الجزيئات العضوية. أدى هذا إلى تطورات جديدة في مجال الكيمياء قبل الحيوية.
تم اكتشاف مؤخرًا أن بعض المعادن، مثل زجاج البورسليكات، ربما لعبت دورًا حاسمًا في تركيب هذه الجزيئات. يبدو أن المفاعلات الزجاجية المستخدمة في تجارب مثل تجربة ميلر قد فضلت تكوين هذه المركبات العضوية. يستكشف البحث الحالي كيف أن هذه المواد الموجودة على الأرض المبكرة، إلى جانب الغازات الصادرة عن البراكين النشطة، يمكن أن تكون قد ساهمت في ظهور الحياة.
اليوم، وبفضل التقدم في علم الأحياء الفلكي والكيمياء الحيوية، نحن نفهم أن الأساس الجزيئي للحياة هو نتيجة للعمليات الكيميائية الطبيعية التي، مع الطاقة المناسبة، يمكن أن تحدث على الأرض وفي أي مكان في الكون. ومن المثير للدهشة الاعتقاد بأن الجزيئات التي شكلت الحياة، سواء من خلال العمليات الأرضية أو بمساعدة مواد من الفضاء، نشأت من خلال تفاعلات بسيطة وعفوية، مثل تلك التي أظهرها ستانلي ميلر قبل أكثر من 70 عامًا. تظل هذه التجربة حجر الزاوية في دراسة أصول الحياة وتستمر في إلهام أجيال جديدة من العلماء للبحث عن إجابات لأحد الأسئلة الأكثر أهمية: كيف بدأت الحياة؟